اقتصاديات الحنين
قضيتُ عشرة أعوامٍ مضت، في مراقبة النوستالجيا وهي تعيش أزهى عصورها.
النوستالجيا حالة إنسانية معروفة، وعالمية، نعم، ومرتبطة بالإنسان الحديث والحداثة لأسباب كثيرة، رغم أن النوستالجيا وردت في النصّ لأول مرة في وصف مأساة أوديس التائه عن الوطن والبيت. لكنني أزعم أنها ظاهرة راهنة محلياً، وربما عربياً، لثلاثة أسباب في نظري: حضورها بكثافة وتنميط في ذائقة جمالية محددة، وعبور هذه الذائقة الجمالية مختلف قطاعات الإنتاج والاستهلاك، وتحول الشعور (الحنين) بحد ذاته إلى سلعة، يدفع الناس أموالهم لاستثارتها واستشعارها وغالباً بصورة جماعية، لا أفراداً.
كامرأة عايشت مرحلة انتقال العالم إلى الرقمنة، قبل ثلاثين عاماً، عندما بدأنا نودّع سيطرة المهارات اليدوية على الذائقة الجمالية، في الخطّ والرسم والتلوين والتصنيع، لصالح الجماليات الرقمية البدائية آنذاك؛ فإن ما نعيشه اليوم يبدو لي ارتحالاً معكوساً في الزمن. هل لاحظت كمّ الكيانات التجارية، في قطاع المطاعم خصوصاً، التي صممت علامتها التجارية لتبدو قادمة من عام 1980؟ هذا بخلاف تصميم قائمة الطعام لتبدو بسيطة ومتقشفة ومماثلة قدر الإمكان لقائمة "البوفيّة" التي كانت تمثل "المطعم" بالنسبة إلى جيل الألفية وجيل X. بالإضافة إلى العودة إلى إطلاق اسم "دكّان" على الكثير من المحلات التي تبيع النوستالجيا على هيئة حلويات توصف بأنها قديمة رغم أنها حديثة الإنتاج وصالحة للأكل، وتحمل أسماء تُدغدغ الذاكرة العاطفية، "دكّان عمتي حصة" مثلاً، أو "بوفيّة السعادة"، أو "شاهي جمر".
الذائقة الجمالية في مجال الفنون اتجهت أيضاً وبصورة لافتة جداً إلى استلهام جماليات الثمانينات والسبعينيات الميلادية من القرن الماضي. هل لاحظت حجم الإنتاج الموسيقي والتمثيلي والبصري المُدمج بفنون غرافيكية تحاكي ألوان وخطوط تلك المرحلة؟ أحدث الصور وأكثرها جاذبية أصبحت تُلتقط لرجل بأناقة وتشخيصة "بكر الشدي" في أزقة سوق الزل، أو أمام الزجاج الملون في واجهة بيت مبنيّ عام 1975م، صار اليوم أيقونة جمالية، حتى أن هناك فلاتر تعطي تأثير تسجيل الفيديو كاسيت المشوّش والمعتم.
هذا فنياً، أيضاً على الجانب الآخر، الحسابات المتخصصة في خطاب "جيل الطيبين" تمثل طبقة شعبوية من هذه الظاهرة، تقدم إنتاجاً جمالياً لا يتطلب أي مجهود، فأي لقطة تدمجها مع موسيقى فوازير رمضان للكبار (مقدمة أغنية سألتك لله لمحمود الإدريسي)، ستتحول فوراً إلى مادة يتناقلها جمهورك عبر واتساب مُستمتعين بالألم العذب للحنين. الحنين يجعلنا ندفع لأصحاب بعض المتاجر الإلكترونية آلاف الريالات لشراء سلع عديمة القيمة بذاتها لولا المعنى المُضفى عليها، مثل تذكرة الخطوط السعودية الورقية، أو المطبوعات الأولى لدار العلم للملايين، أو زجاجات البيبسي التعبئة، أو كتاب ودفتر مدرسي يحمل صورة الملك فهد رحمه الله. وكيف أعادت السعودية خلال الأعوام الماضي اكتشاف فنانة كبيرة مثل عتاب رحمها الله، فأصبح أسلوبها الفني موضوعاً لإعادة الإنتاج والمزج مع مختلف الأنماط الموسيقية، وتحولت أغنياتها إلى أداة ترويجية رائعة، وفساتينها البهيجة وتسريحاتها الضخمة عنصراً جمالياً حاضراً أكثر مما كانت حاضرة في كل حياتها وخلال نشاطها الفني.
لا، لم تكن عتاب مهضومة الحق ومحرومة من الاعتراف في زمنها بسبب الصحوة فقط، لقد كنا نعترف بنوال الكويتية في الثمانينيات، وكنا نسمع رباب، ونحب عزيزة جلال وفيروز. عتاب لم تكن تتفق مع ذائقتنا الجمالية وقتها، وما تفعله النوستالجيا خلال عملها على استعادة الماضي؛ أنها تعيد ابتكاره في ذات الوقت وفق ما يلائمها من شروط الحاضر. نحنُ نَحنّ إلى عتاب نجمة الثمانينيات لكننا لا نحنّ إلى سخريتنا من فساتينها وصوتها ورقصاتها وتمثيلها، ونحنّ إلى مسلسلات "خالتي قماشة" و"خرج ولم يعد" رغم أننا لو جلسنا لمشاهدتها قصة كاملة ستصدم عقيدة تمكين المرأة التي تهيمن علينا، ونحن إلى الحلوى التي يبيعها "دكان عمتي حصة" الذي افتتح قبل عام، لكننا قطعاً لا نشتري حلوياتنا من الدكاكين العتيقة في الديرة والمعيقلية، ونحب شراء صاروخ الفلافل وبرجر المقصف من مطعم جديد لوحته الأنيقة مكتوبة بخطّ الرقعة اليدوي، افتُتح قبل أشهر في شمال الرياض، لكننا لا نذهب إلى مطاعم الرياض العتيقة في الملز والسويدي لنأكل هناك من بوفيّة حقيقية عمرها 30 عاماً، ولا توجد فيها قائمة تراعي حساسياتنا المستحدثة للقلوتين ولا خيارات حمية الكيتو ولا نكهات الماتشا أو الترافل.
الماضي الذي نَحنّ إليه جماعياً لا وجود له في المكان، ولا في الزمان، ولم يكن موجوداً قط بصورته النوستالجية الـمُمنتجة، إنه موجود في حيّز ذهني وحسب، وعندما نذهب إلى "هناك"، فإننا نلتقي اجتماعياً، وننصهر، وننسجم، ونتآلف، في "الهُناك" الذي ليس هو حاضرنا الراهن، ولا ماضينا المشترك، بل خيالنا الاجتماعي.
لكن أغلب الأوراق العلمية التي تتناول النوستالجيا لا تتناولها كظاهرة اجتماعية، بل تأخذها موضوعاً للبحث السايكولوجي وتضعها في حيّز الإنسان-الفرد. فالنوستالجياً عُرّفت أساساً قبل قرنين أو ثلاثة بوصفهاً مرضاً نفسياً، شكل من أشكال الاكتئاب المرتبط أساساً بالحنين إلى الوطن والعائلة بعد مغادرتهما. ثم أعيد تعريفها خلال القرن العشرين، كأغلب المفاهيم السايكولوجية، وبناءً على البحث الميداني عُرّفت النوستالجيا بوصفها نوعاً من الميلانخوليا المغلفة بالسكر. شعور مر-حلو، وحلو أكثر منه مر. وهو شعور لا علاقة له بالذاكرة والتذكر، وبالتالي، لا علاقة له بالماضي (الفعلي)، فحتى الأطفال وفاقدي الذاكرة تبيّن أنهم يعرفون النوستالجيا وينتابهم الحنين إلى ماضٍ ما.
والحنين لا يقتصر على ما نعرف، بل إننا قد نحنّ إلى ما لا نعرف، إلى البداوة، إلى الريف، إلى الأندلس، إلى عصر الأرت ديكو، إلى "مصر زمان"، إلى بيوت الشام، إلى عصر البراءة. إنه مجرد شعور، مثل الحب والكره والغضب، يؤدي وظيفة ما في عالمنا النفسي. عرّف المبحوثون الحنين بوصفه مصدراً للشعور الإيجابي عن الذات، فدماغ النوستالجيّ يعيد كتابة قصة الماضي ليضع ذاته في بطولتها، وتتميز صورة الماضي لديه بكونه فارساً اجتماعياً محبوباً ومُنتمياً، فالحنين يردم الهوة المؤلمة بين الماضي والحاضر، وبين الذات والآخر، ويُعيد تعريف الذات ومعنى الوجود ويعزز الرضا عن تجربة الحياة، ويتركز هذا كله خلال مراحل العزلة أو الوحدة المؤلمة التي يحتاج الإنسان فيها حاجة ماسة إلى رابطة ما بالمجتمع، تحتوي التهديد الوجودي الذي يستشعره في عزلته.
ولأن التسويق سبّاق إلى نهش الخاصرة الرخوة للإنسان بالمبيعات؛ فإن المسار البحثي الآخر الذي أخذ من النوستالجيا موضوعاً، كان توظيف الحنين في الاستهلاك. ولن يُدهش أحد لو عرف أن الحنين مخلب تسويقي ممتاز لاستغلال نقاط ضعف الإنسان، فقد أشارت أوراق علمية في المجال النفسـ/ـتسويقي؛ إلى أن إثارة الحنين لدى الإنسان تجعله أقل تمسكاً بالمال، وتتراجع أهميته مقابل اعتبارات عاطفية أخرى، وهذا يعني أن أي بائع ينجح في مداعبة حنينك سيتمكن على الأغلب من بيعك ما لا يمثل حاضرك حقاً ولا ماضيك بالفعل، لكنه يُشبع ضعفك الإنساني، ويدفئ وحدتك.
لكن لا بد أن ثمة تفسيراً اجتماعياً للنوستالجيا إذا ما أصبحت ظاهرة اجتماعية ونمطاً جمالياً يفرض نفسه على السوق، فالتفضيلات الجمالية في النهاية تعكس بنية الفضاء الاجتماعي، كما يقول بورديو. ألاحظ أولاً أن اقتصاديات الحنين ليست مطلقة زمنياً، إنها تركز على الحنين إلى بواكير التحديث السعودية، بين 1970 و1999م، فما قبل ذلك موجود في الفضاء الاجتماعي ومُقدّر، لكن على الأغلب بوصفه "تراثاً"، وما بعد ذلك مجرّد أرشيف رقمي، لكن العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين هي عقود الحداثة المبكرة في المملكة، البيوت الاسمنتية والتلفزيون الملون وسيارات البويك والاستيراد والتعليم والتقنين. منتجات النوستالجيا تنتمي في 90% منها إلى هذه الفترة، وأبطال هذه الفترة هم جيل X وجيل الألفية الذين يشكلون الآن الطبقة المليئة من العاملين الناضجين المستقرين المتمتعين بفوائض مالية، والذين يمثلون طبقة مُستهلكة مؤثرة وقادرة على فرض مزاجها ومعاييرها، وملائمة للاستهداف بالتسويق النوستالجي، لكن هناك ما هو أبعد.
فجيل X والألفية طالما عوملوا في زمنهم بوصفهم الجيل القاصر المعتلّ بأمراض الحداثة، عندما كانوا يشبّون، مقارنة بجيل التراث، وكان الموضوع المحبب للإعلام مناقشة انحراف أخلاقياتهم وتدهور أذواقهم وملابسهم وخطورتهم على الذوق والأخلاق الاجتماعية. لاحقاً وبعد عام 2010 ظهر مصطلح "جيل الطيبين" لوصف هذا الجيل العابر رقميا، الذي وجد نفسه في فضاء واحد مع جيل Z. جيل الطيبين في البدايات كانت تُستعمل كثيراً لوصف القديم، الساذج، المحدود؛ إلى أن أحكم جيل الألفية امتلاكه المصطلح فقلبهُ لصالح الانتصار للذات وإعلاء شأنها في وجه الأولين والآخرين، في وجه تراثيين قسوا على أول أجيال التحديث في المملكة، وفي وجه جيل الووك الذي تشكل قيمهُ صدمة حقيقية عميقة لكل من سبقه.
النوستالجيا هي طريقتنا الناعمة لنقول إننا أفضل من آبائنا وأبنائنا معاً، وأن حداثتنا كانت محافظة ومتزنة وضرورية وبريئة وصالحة، وفوق كل ذلك جميلة. هناك اعتراض خجول على الحاضر باسم الماضي، في طيّة التوق إلى استعادة طعام الأمس وموسيقى الأمس وعائلة الأمس وبيوت الأمس. إننا نلوذ بالنوستالجيا التي تُعيد تشكيل الحاضر والماضي في نفس الوقت؛ من الذات الحديثة المُعرّفة كما يقول تشارلز تيلور، بالعقلانية والذرائعية والسيادة الذاتية، ونستخدم الحنين لاختلاق الشعور بالأصالة في فضاء المدينة المتغيرة بسرعة حادة مادياً واجتماعياً. لا بد أن جيل الألفية وجيل X يشعرون باغتراب يعزّ عليهم الإفصاح عنه صراحة، وتشظٍ ورعب أمام ثقافة الووك، وتساؤلات مقلقة حول ما إذا كانوا في أعماقهم مجرد كائنات تراثية لا تنتمي إلى الحداثة حقاً وإن توهمت ذلك شكلياً، فيأتي الحنين هنا ليلملم الشعث الفكري في أسطورة ماضٍ مُتخيل عنوانه "البساطة" و "الألفة"، عندما كان الناس يعيشون حياة متماثلة ويحملون قيماً متماثلة ويعيشون أياماً متماثلة.
إن أمكن أن أتنبأ بشيء يخص اقتصاديات الحنين، فهو أنها لن تدوم، لأنها مرتبطة أولاً بجيلي X والألفية، وهو جيلٌ في طريقه إلى التقاعد، وثانياً لأننا ربما نشهد آخر عصور النسيان، كما تقترح كيت إيكورن في كتاب "نهاية النسيان". فجيلنا يتمتع عملياً بأفضلية ستنقرض منذ الآن فصاعداً وهي النسيان، فقدان الأرشيف الذي حظينا بهبةِ التحرر منه، والفرصة لاختراعه، أو إعادة تأليفه. أنا شخصياً لا أملك أي صورة لي بوصفي مراهقة، هناك مرحلة كاملة من حياتي لا يوجد ما يدل عليها مادياً، وهو أمر مريح ومطمئن ولا أرغب في تغييره لو سنحت لي الفرصة. بينما يعيش جيل الووك في عالم رقمي لا يمكن فيه طمس الذاكرة الفردية ولا الجماعية، فكل شيء موجود ومؤرشف، ومساحة اللعب النوستالجي للمزج بين الخيال والماضي تتضاءل وتنحسر، وقتها سيشعر الناس بالحنين إلى الحنين. خلال عقدين سيتسيد جيل الووك الفضاء الاجتماعي وسيفرض جمالياته الخاصة، ولا يمكنني أن أتخيله مسكوناً بالحنين إلى جماليات تيك توك مثلاً، أو قادراً على تخيل ماضٍ أجمل مما كان، أو إعادة كتابة تاريخه الفردي أو الجماعي، إلا لو وقع انفجار نووي يقضي على سيرفرات العالم، ويمنحه فرصة البدء على صفحة بيضاء جديدة، مثلاً.
حتى ذاك، سأظل أحن إلى عالم خيالي استمرّت فيه عالية حسين تغني إلى الأبد: آه يا روحي.. من يسلّي الروح؟